الطاهر حليسي..أخيرا للأوراس الكبير صوته الروائي الفخم!

يغيب “المجتمع الشاوي” أو الأوراس الكبير بتفاصيله الدقيقة بشكل لافت عن السردية الوطنية، رغم أن أكبر الروائيين الجزائريين من الشرق ، “كاتب ياسين” ، “رشيد بوجدرة”، “الطاهر وطار” بإستثناء بعض السرديات التي  إنتبهت إلى هذا الفضاء ذو المحمول الحضاري الضخم، وباتت  تغوص في بعض أسراراه الخفية، على غرار أعمال الروائية الراحلة يامينة مشاكرة، وكذلك الشاب “جلال حيدر”، والصحفي المخضرم الطاهر حليسي من خلال أعمله الأخيرة التي يتوسم فيها القراء لمسة مجدة لمشروع روائي متكامل بدأ لتوه يستنطق الأوراس كثيمة إبداعية!

لا يزال “الأوراس الكبير”، جسدا مفتوحا أمام الروائيين والكتاب والشعراء والمبدعين ..، بعيدا عن ذلك “الثقل التاريخي” الذي أثّر عليه بشكل واضح في عملية سردية “ماضيّوية جاهزة”، تم فيها إغفال الكثير من الروافد والتفاصيل الدقيقة التي لولاها لما تشكّلت تلك المواقف الصلّدة في وجه الأحداث التي عُرف بها إنسان تلك المنطقة من شرق الجزائر منذ زمن طويل، على غرار “قساوة البيئة” و التفاصيل الصغيرة ” الأسرة”، “العشيرة”، “العرش”، “القرية”، و” فلسفة الصراع ” التي تحكم كل هذا .. الأوراس الكبير بالولايات المتخمة له، يعيش اليوم تحديات كثيرة تحاول فيه بعض الأصوات الروائية النبش في هوامشه الماضية والآنية وقراءة مستقبله القادم .

وكما جرت العادة في مختلف الفضاءات السردية، حيث يكون لها الحظ بأن يتبناها شاعر يتغنى بها أو أديب يسرد عنها تفاصيلها غير المعلنة، إلا أن “الأوراس الكبير” أو المجتمع الشاوي الممتد في تخوم الشرق، يبقى من دون “شاعر” أو “أديب” أو “كاتب”  ينطق بإسمه ويسبر أغواره الخفية، فهل سيكون “الطاهر حليسي”، الصوت الروائي المنتظر، كمشروع سردي متكامل وليس كمحاولات لكتابة عابرة تخضع عادة لسلطة ” الميزاجية الإبداعية المتقطعة “؟!.

صوت روائي جديد يحاكي العالمية !

يحضر الكاتب والصحفي الطاهر حليسي، في الصالون الدولي للكتاب سيلا 2023، برواية جديدة موسومة بـ “مزرعة جونكيرا”، وهي مولوده الثاني بعد “ميزونة.. “الشياطين هم الأبطال”” حيث لاقت هذه الأخيرة تنويها كبيرا من قبل “الكتاب” و”القراء” و”النقاد” في الساحة الأدبية الوطنية، حيث أشاد الناقد والأستاذ الجامعي، محمد الأمين بحري بأنها رواية “تحاكي العالمية بأساليب تجريبية مبتكرة”، واصفا إياها بأنها أُعدت على نار هادئة وعميقة فهي قادمة من ذهنية قرائية ضخمة لكاتب مجد قبل أن يتجه نحو العملية السردية.

يُطل علينا الكاتب “حليسي” بروايته الجديدة، في الوقت الذي يواجه فيه القراء عبر العالم أدبا سريعا خاضعا لسلطة السوق والإستهلاك،  هذا العمل الذي يحمل أكثر من 400 صفحة كاملة، يعيد إلى أذهاننا ذلك الأدب الفخم الذي يتميز بضخامة في الشكل ومتعة سردية عميقة في المضمون.

في هذا الحوار الذي جمعه مع موقع “الوطن برس”، يكشف والروائي الطاهر حليسي العديد من التفاصيل التي جعلت روايتيه تخلقان هذا الإهتمام الكبير لدى القراء والنقاد، فضلا عن عدة قضايا تشغله كصحفي وككاتب في بيئة لم تحظى بالإهتمام الكافي سرديا وبقية على الهامش ترزح تحت عباءة “الإرث التاريخي ” الذي لصق بها كمهد للثورة التحريرية المباركة قبل الإستقلال وبعده!

من الميزونة إلى مزرعة الجونكيرا ..لماذا أنتظر الطاهر حليسي كل هذا الوقت لكي يكتب في فن الرواية وليس نوع أدبي أخر ؟

لا أخفي عليك أنه منذ ثلاثين سنة كان لديّ هاجس كتابة الرواية، إذ غالبا ما كنت أكتب نصوصا بالعربية والفرنسية واحتفظ بها، فقد كتبت مشروع مسودة رواية سلمتها لصديق مسرحي لكنه أضاعها. مع ذلك لم أكن متحمسا للنشر سوى بدء من العام 2015 ثم صدرت روايتي الميزونة الشياطين هم الأبطال العام 2017 ونالت صدى طيبا لدى الجمهور ولدى النقاد حيث وصلت القائمة القصيرة لجائزة الطاهر وطار العام 2018، ثم صدرت لي هذا العام 2023 رواية الجونكيرا، كما أحتفظ بمخطوطة هي مشروع رواية ثالثة كما أحتفظ بنصوص أخرى في مجال أدب الرحلة ومذكرات الحرب. لا أعتقد بتاتا بأن النشر يمكن أن يرتبط بزمن بل بتقدير الكاتب بالزمن الذي يطرح فيه منتوجه لحكم القراء فما يهمني أن يبلغ ما أصدره مستوى معينا من النضج كي يرسخ مكانته في التاريخ، فمشكلتي ليست مع القارئ بل مع التاريخ، لذا لا أنشر سوى ما يتهيأ لي أنه جيد وباق ودائم. كثير من الكتاب غزيري الإنتاج اصطدموا بمعضلة هي سوء نصوصهم السابقة مقارنة بالنصوص الحديثة، والسبب هو التسرع في النشر دون ترك تلك النصوص للكمون والتخمر والنضج.

ما تكتبه له صلة دائمة بفضاء مكان ما جرت فيه أحداث مفصلية في تاريخ البلاد لكنه مغيب عن الكتابة الروائية الجزائرية بالمقارنة عن بقية الفضاءات.. هل ترغب من خلال روايتيك أن تنتصر للمكان أو للإنسان؟

المكان هو سينوغرافيا النص وهو جزء من روح الكاتب بما يوفره له من هوية ذاتية أو اجتماعية، لذا أجدني وفيا لذاتي والمحيط الذي أعيش فيه، بما أنني أستلهم منه ومن الأشخاص الذين يتحركون في محيطه وأجواره.

أنا أتغذى من هذه الواقعية والحميمية بشكل لا يصدق فأنا كائن اجتماعي عاش حيوات كثيرة عبر الأمكنة والشخوص. وطبعا أنا أفعل ذلك من باب رد الجميل للمكان الذي أعيش فيه والناس المحيطين بي، من أجل غاية معينة، هي التعريف بها ومنحها حياة سردية ومسرحية وسينمائية. زرت عدة دول وما لفت انتباهي بأن قرية كورليوني الواقعة في ريف صقلية تحولت لعلامة عالمية في الضمير الإنساني كما صارت مقصد السياح من كل حدب وصوب، كل ذلك جاء من ماريو بوز الذي ألف رواية العراب والتي صارت فيلما سينمائيا عالميا، كما أن أغنية نينو ريتا ” بروشيا لاتيرا” التي واكبت الفيلم صارت لحنا عالميا يرمز للهوية الإيطالية والصقلية شائعا في العالم، وتأمل جيدا قدرة الفن والأدب على التوهج وتحويل قرية ولحن محلي إلى سلعة عالمية رغم أن الفيلم يروي قصص المافيا.     

بعد الاطلاع على الروايتين يبدو للقارئ أنك تركز على تلك الأحداث القادمة من الهامش نحو المركز.. لماذا كل الشغف في هذا الاتجاه؟

السبب بسيط لأن الهامش هو المركز بالنسبة لي. أنا أرى فيه نظرة السوسيولوجي الذي يختبئ وراء الأدب. في المجتمعات التي تعاني الكبت والانغلاق مثل مجتمعنا يبدو لي الهامش هو مسرح الأحداث الكبرى، هو البركان الذي يطور في أحشائه حمما وجب التنبه لها قبل وقوعها، يبدو ذلك جليا في الميزونة أو قصة الأصفار الذين يصبحون أبطالا جراء انعدام معيار الارتقاء السليم لتنشأ الزبائنية و الإنتهازية و ابتذال المناصب، أما في رواية الجونكيرا فتسلط الضوء على تفاصيل هامشية ربما تكون من أسباب شعور الخيبة التي يشعر بها الجزائريون بعد الاستقلال مقارنة بالتضحيات الجسام التي بذلت لتحرير البلاد. لا ينكر هذا الشعور سوى مجنون و لكي نفهم الموضوع جيدا علينا أن نقارن بيننا و بين الفيتنام هذا البلد الذي قام بثورتين لكن مواطنيه لا يشعرون بالخيبة بل بالاعتزاز، لأنهم لم يحبسوا ذواتهم في سجن الذاكرة الثورية بل عبر مشروع حول قيم الثورة لقيمة مضافة عبر التنمية و التطور الاقتصادي، فلا سيادة بلا ثورة، و لا سيادة بلا تنمية. وأجمل شيء يتم به الوفاء للشهداء ليس الروايات الأسطورية بل بالتنمية الحقيقة التي تتيح للمواطنين عيش حلمهم الذي ضحوا من أجله: الكرامة. لذا لا يمكن تصور كرامة أمام الفقر والهشاشة الاقتصادية.   

رقصة “علا الشاوي” وكأنها رقصة فيلم زوربا الإغريقي الشهير ..ماذا ترغب أن تقول في الرواية من خلال الرقص والأغاني الشاوية المذكورة ؟

أولا أود أن أمنح عبر تلك الرموز التراثية وعيا بالمكان أولا، ثم الهوية المحلية للنص رغم أن موضوعه وطني وكوني، فأنا أريد أنه عندما يقرأ أي شخص مهما كان جنسه أو عرقه أو دينه أن يتعرف على أن هذه الرقصة هي رقصة شاوية ومن الأوراس ومن الجزائر، تماما مثلما حوّل الروائي اليوناني نيكوس كازانتاكيس رقصة السيرتاكي التي يؤديها زوربا في الفيلم إلى فولكلور عالمي وبصمة إغريقية خالدة. اطمح إلى تخليد الموروث وتأبيده وفاء لعادات أجدادي وأبي وأمي، فالغرق والانغماس في المحلية هو طريق العالمية، فالعالم يريد التعرف عما لدينا وعلينا أن ننقل ما لدينا للآخرين.

ستكون حاضرا في صالون سيلا 2023   بعملك الجديد “مزرعة جونكيرا” …ما في جعبة هذه الرواية؟

تغوص الرواية في شعور الخيبة التي تلازم بطلها الرئيسي خاليس الذي شارك في الحرب العالمية الثانية بأيطاليا ثم في ثورة التحرير، فنتعرف على حياة الثوار في الجبال ومعاناتهم وتضحياتهم بشكل رومنسي محض ومثالية عالية، ثم نعيش في الفصلين الثاني والثالث بعض أزمات الجزائر المعاصرة مثل حرب الولايات، والصراع المحموم حول السلطة والمال والنفوذ، ويتجسد ذلك من خلال تحالف رفيق كفاحه مع خائن للثورة، مقابل مزايا من الأملاك الشاغرة نظير تحرير وثيقة مزورة للمشاركة في الثورة، و ما سينجر عن ذلك من أحداث متداعية قبل وقوع بعض المفاجأة الصاعقة خلال المواجهة الكبرى. 

  • حاوره : أحمد .ل

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

15 − ثمانية =

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق