العُمال اليَوميُون .. وقائع “حصار” غير معلن !

“العام الماضي، وفي عزَ الشتاء، توقفت بنا حافلة لنقل المسافرين، على قارعة الطريق في واحدة من المرتفعات الجبلية الشاهقة، ونحن متجهون الى إحدى مدن الشرق الجزائري .. فقَد ذلك الهيكل الحديدي الضخم، قدرته على السير رغم المحاولات اليائسة للسائق لدفعه نحو الامام.. التساقط الكثيف للثلوج، جعلنا نقررمع قائد الرحلة أن نعيد أدراجنا الى المحطة التي انطلقنا منها أول مرة.

 إلا كهلا في الخمسين من العمر، نزل من “الكواستر”، ليبحث لنفسه عن وسيلة نقل أخرى تُقله الى مراده، رغم كثافة الضباب وخطورة “الدروب الوعرة” المكسوة بالبياض، وقبل أن يبتعد عنا دون أن يدفع حتى ثمن التذكرة، تمتم على مسامعنا   » يا جماعة.. والله يا نخدمش في النهار ..ما يتعشاوا الأولاد لعشية !؟ « 

هي صرخة جهر بها، عامل يومي، من عمال الجزائر العميقة، الذين يكابدون يوميا للبقاء على قيد الحياة ببعض من الكرامة والانفة رغم قلة المردود بالمقارنة مع العمل الشاق الذي يقدمونه، تذكرت هذه القصة التي حدثت أمامي قبل سنوات، وأنا أقوم بإعداد هذا العمل الصحفي، حول هؤلاء العمال الذين يعيشون بيننا النسيان والعزلة  دون أن نأبه لحالهم ونحن في عز فيروس قاتل !.

ما يعيشه هؤلاء العمال ونحن في الاسبوع الثالث من الوباء في الجزائر، سيكون بدون أدنى شك، أكثر وقعا على يومياتهم السابقة، فهم تحت رحمة “حصارين”، حصار جائحة كورونا القاتل، حيث تخطت ضحاياه رقم العشرين و 400 حالة تأكدت إصابتها بالفيروس، وحصار الإجراءات الوقائية التي فرضتها الدولة مانعة عنهم الفضاء الذي ينشطون فيه “الأسواق” لإعالة أسرهم، مخافة إصابتهم بالمرض الفتاك ! 

بين مطرقة كورونا وسندان الحجر الصحي !

يطارد هؤلاء “العمال البسطاء” أجورا زهيدة من ساعات الفجر الباكر حتى غروب الشمس، جراء اشتغالهم في أعمال حرة وبسيطة، كالحَمَالة في الأسواق وورشات البناء ومستودعات الاسمنت والحديد والموانئ، وفي حقول الخضر والفواكه .. فدائما ما يرتبط بقائهم على قيد الحياة مع عائلاتهم بدأبهم المضني يوميا لكسب القوت، لكن ماذا لو انقطعت سبل عيش هؤلاء الذين يقطنون في “المناطق الظل” وتخوم المدن الكبرى والازقة الهامشية، بعد الإجراءات التي اتخذتها السلطات، بتوقيف النقل الجماعي في القطاعين العمومي والخاص بين الولايات وداخل البلديات، ودعوة المواطنين إلى البقاء في منازلهم في “الحجرالصحي” خوفا على حياتهم من وباء الكورونا؟

لم تحرك قرارات رئاسة الجمهورية، شعرة في رأس عمي محمد، العامل اليومي في مجال البناء، والقاضية بتسريح 50 بالمائة من العمال، في القطاع العمومي، مخافة تفشي أكثر لوباء كورونا وسط المواطنين مع الإبقاء على أجورهم، وهو الاجراء الذي خلف امتعاضا لدى عمال القطاع الخاص، والذي اعتبروه تقصيرا من الدولة في حقهم، رغم انهم يدفعون ضريبة الدخل، ومؤمنون مهنيا واجتماعيا، لكنه فضل أن يُعلق على تلك التدابير، بنوع من اللامبالاة البادية على ملامحه، وبكثير من التهكم لعل بعضا من رسائله الواضحة والمشفرة تصل لاصحاب القرار، حيث يقول في حديث لـ”لوطن برس” الدولة  تخلات حتى على الناس لي راهي تخدم في “البرييفي” – القطاع الخاص – ولم تضمن لهم أجورهم وقت الكورونا للبقاء في المنازل مثل العمال لي اخدموا عند الدولة  .. حبيتها تتفكرنا حنا، لي رانا ندمروا بالنهار ” ؟ !، وأضاف بنوع من الحسرة ” ..واحد ما راه سامع بينا ياوليدي ”  .

حاولت أن أخذ دور العارف لأشرح له الوضع، بأن تسريح بعض العمال هو اجراء طبيعي تتخذه كل الدول من اجل حماية مواطنيها في هذه الازمة الصحية، ولا يمكن لها أن تضمن للجميع البقاء في البيت، حتى تحافظ على استمرارية الخدمة في جميع المؤسسات التي سيستفيد في الأخير منها المواطن.”…محاولتي للشرح لم يأبه لها عمي محمد وإكتفى بالصمت وكأنه يعتبرما قلته أقل إقناعا من واقعه المزري!

الكهل الستيني لم يكن أقل امتعاضا وحيرة، من شاب عاصمي من الجيل الحالي في العشرين من العمر، رمت به الظروف الاجتماعية خارج أسوار الدراسة، يقول ” صحيح ان اجراء عدم الخروج من المنزل جيد لكي يحمي الناس من الوباء ” ، ”  لكن الناس لي موالفة تخدم بالنهار كيفاش راح تدير؟ ” ، يضيف سفيان ”   أنا وابابا مثلا نبيعوا الحوت، وليس لدينا أي مدخول أخر سوى من هذه المهنة كمتجولين في الشوارع، كيفاش راح نديروا ضرك  ” !.

وأضاف قائلا  “يجب على الدولة والاغنياء وأهل الخير أن يلتفتوا الى هذه الفئات الضعيفة في المجتمع خاصة في هذا الظرف بالضبط ..على الأقل إذا قدر ربي ومتنا بكورونا ربي إعافينا إن شاء الله، نموتوا شبعانين ماشي نموتوا بالجوع ” ! .

“الدواكرة”.. و”العتالين” يُصارعون الفيروس بجيوب خاوية!

قُبالة المدخل الرئيسي لميناء الجزائر، بالعاصمة، و على بعد 400 متر تقريبا، تُخلد السلطات العمومية، فئة الحمالين في الجزائر، أو ما يعرف “بالدواكرة”، بتمثال من البرونز الفخم، مجسدا في هيكل رجل مفتول العضلات يحمل كيسا ضخما فوق كتفه، كإعتراف على ما قدمه هؤلاء من تضحيات من أجل استقلال البلاد، في عهد الاستعمار الغاشم، بعد المجزرة المقترفة في حقهم قبل الاستقلال بشهرين، وكاعتراف أيضا على جهدهم  اليومي، من أجل العيش في كرامة، هي نفس الكرامة التي ينشدها اليوم “حمالوا “سوق بوفاريك  في البليدة، وغيرهم من “العمال اليوميون “في عز الازمة الصحية التي تمر بها البلاد، الذين إنقطت بهم السبل وصدت في وجوههم كل الابواب !.

يروى الصحفي مروان الوناس عبر صفحته على الفاسبوك، الذي سمح لنا بنقل قصة صديق له من مدينة بوفاريك بالبليدة التي تعيش حجرا صحيا شاملا، وعن الحالة الصعبة التي يعيشونها المواطنون في ثاني أيام الغلق والحجر الشامل لولاية .

قال المتحدث لمروان  “إنه “حصار” وليس “حجر”.. فالحياة شبه معطلة لا خضر ولا بنزين، ما يعني أن هناك خلل ما في ضمان الحد الادنى من الخدمات حتى لا تزيد للمخاوف الصحية مخاوف أخرى على لقمة العيش ” .

وأضاف “صديقي حملني ما يشبه رسالة ودمعت عيناه على حال أشخاص يعرفهم بعضهم يشتغل حمالا ” عتالا” في سوق بوفاريك مصدره الوحيد للقمة العيش وهو “النشاط اليومي” لا يجد ما يطعم به ابناءه، ولأن الخير لا ينقطع في الجزائريين، قام مواطن صاحب محل للمواد الغذائية بتوزيع ما أمكن مجانا على الاسر المحتاجة  ” .

ربما هذا “الحصار” غير المعلن هو ما جعل رئيس الجمهورية، يبعث برسالة إلى سكان البليدة، لكي يطمئنهم أن هذه الإجراءات في صالحهم من اجل حماتيهم وليس عقابا لهم !، نفس الفئات الهشة من المعوزين وعائلات “العمال اليوميون”، حركت مشاعر وزير التجارة، الذي دعا عبر صفحته على الفاسيبوك، “أهل الخير” من أجل مساعدة إخوانهم في ولاية البليدة التي تعيش الحجر الصحي الشامل سيستمر الى غاية 10 أيام كاملة، قابلة للتمديد إن لم يتم السيطرة على الفيروس، وتعافي المصابين.

“العمال اليوميون”..حديث تكتل التضامن والإغاثة!

لم يتضمن البيان الأخير للوزارة الأولى، القاضي بالتنقل الأشخاص الشامل والجزئي بين الولايات، أي اجراء يخص “العمال اليوميون”، ربما هذه الفئة لا تساوي الكثير في إجراءات الحكومات في هكذا ظروف، مثلها مثل مختلف الفئات الأخرى، فالتدابير المتخذة في أوقات عصيبة كهذه تتجاوز التوجه الفئوي نحو الصالح العام وحماية الجميع من الخطر الداهم، لكن يبقى السؤال المطروح بإلحاح من سيتكفل بهم؟

قد تأتينا الإجابة جاهزة من الشارع الذي يتداول في قاموسه اللغوي عبارة “كاش نهار سمعت واحد مات بالجوع في الجزائر؟”. صحيح لم نسمع بذلك .. لكن ربما الذين ماتوا لم تتاح لهم الفرصة ثانية يخبروننا بأنهم ماتوا من الجوع!

تحاول هذه العبارة المغروسة في المخيال الجمعي الجزائري، أن تعبر عن التضامن الاجتماعي الذي يميز الجزائريين، لكن بقاء هذه العملية التضامنية حبيسة العشوائية، دون تأطير وتنظيم سيفوت الفرصة على تكفل فعال وحقيقي بهذه الفئات التي تعيش على الهامش.

 لذلك تسعى مبادرة التكتل الوطني، للتضامن والإغاثة، التي تضم عدة جمعيات من المجتمع المدني، والهلال الأحمر الجزائري، والكشافة الإسلامية الجزائرية وغيرها من الجمعيات، والتي تم الإعلان عنها قبل أيام، من أجل مساعدة الفئات الهشة بما فيهم “العمال اليوميون” في هذه الظروف الصحية “الصعبة” و”الخطيرة”.

يدق عضو التكتل التضامني، بغدادي فيزازي، خلال الندوة الصحفية للإعلان عن المبادرة في جريدة الحوار، ناقوس الخطر بشأن العمال اليوميون بالجزائر قائلا  ” في الوضع العادي الذي كانا نعيشه كجزائريين، كانت هذه الفئة التي تعيش بيننا تتخبط في وضع مزري ، فما بالكم اليوم وفي عز انتشار جائحة كورونا القاتل لكم أن تتخيلوا حالهم ” ! .

وبعدما قدر بغدادي عددهم بمئات الالاف عبر التراب الوطني، دعا إلى التنسيق مع التكتل الوطني للتضامن والإغاثة ومختلف الهيئات الرسمية وغير الرسمية، وجمعيات المجتمع المدني على المستوى المحلي والولائي والوطني، وغيرها من الفعليات المجتمعية، من أجل التكفل الفعلي بـ”العمال اليوميون ” وباقي الفئات الهشة.  

في نفس السياق، راسل النائب البرلماني، حسن عريبي الوزارة الأولى، داعيا اياها”  الى التكفل بمئات الآلاف وربما الملايين من الجزائريين الذين يعملون في اعمال حرة بعضها لا تزيد عن مجرد البحث عن لقمة اليوم الواحد، فالكثير من “المونوفرية” وأصحاب “الطوابل” و”الأكلات السريعة” وغيرها العشرات بل المئات من الاعمال الحرة البسيطة لا يزيد أصحابها عن البحث عن مدخولهم اليومي الذي يفرحون به أولادهم ويدخلون به على أهاليهم السرور ويحفظون به كرامتهم.

مراسلة النائب عريبي للحكومة، قابلها العديد من المراقبين بنوع من الإشادة باعتباره النائب الوحيد الذي دعا الى التكفل بفئة “العمال اليوميون”، لكن ما أعاب البعض عن النائب عريبي، عدم أخذه لزمام المبادرة، والتبرع ولو بجزء من راتبه لفائدة هذه “الطبقة الكادحة”، وكذلك دعوة زملائه النواب في الغرفتين، لكي يتبرعوا من أجل التكفل بهذه الفئات الهشة التي تواجه خطر الكورونا والجوع معا «   .

“تيلطون كورونا”.. هل يستفيد منه “العمال المهمشون”؟

أطلقت السلطات العمومية، حسابان، الأول بنكي والأخر بريدي، كـ” تيلطون” يساهم فيه المواطنين لمواجهة فيروس كورونا، لكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن المتابعين والعارفين بهذه الفئات الهامشية في المجتمع الجزائري، هل ستستفيد هي الأخرى من هذه التبرعات التي يقدمها الجزائريون؟، خاصة بعد الهزة العنيفة لعامل الثقة التي خلفها عهد النظام السابق بين المواطن والسلطة على خلفية جحم الفساد الذي  حالة من الحيرة والدهشة وسط الجزائريين من هول الارقام المكوكية ، هذه الثقة “المُهدمة” قال عنها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون ليس بالسهولة أن يسترجع الشعب ثقته في مؤسسات الدولة !.

ورغم تفهم المواطنين لخلفية لجوء الدولة لجمع التبرعات، على خلفية الوضع الاقتصادي الصعب بعد إنهيار أسعار النفط، والازمة الصحية الخطيرة، وهو ما حرك بعضا من “النخوة الوطنية” لدى بعض رجال المال والاعمال  في الجزائر، حيث أعلنوا عن تبرعات “محتشمة ” الى غاية الأن لمواجهة الفيروس، إلا أن بعض من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، كان لهم رأي أخر حيث دعوا السلطات العمومية إلى استرجاع الأموال المنهوبة من “العصابة”، فضلا عن اقتطاع من رواتب الوزراء ونواب البرلمان وغيرهم من مختلف الإطارات السامية في الدولة، لمواجهة الوضع المتأزم وتخصيص جزء من هذه الأموال للفئات الهشة في المجتمع بما فيهم “العمال اليوميون” الذي يواجهون فيروس كورونا بجيوب فارغة!

روبورتاج / ر.ك 

الوسوم
اظهر المزيد

ربيع كاتب

صحفي مهتم بالشؤون السياسية والثقافية والدولية في جريدة الوطن برس .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق