أمين قوتالي..رسائل “البحر والحصى” في زمن الكورونا!

يطارد يومياته بأجوّد المقالات الصحفية بلغة “موليّر” الفاخرة، في إحدى زوايا جريدة “لوريزون” الحكومية، ومثلما يفعل بالكلمات على لوحة مفاتيح حاسوبه، يتصيّد لحظات المجتمع الجزائري بألة تصويره التي لا تفارق تحركاته عادة..فهذه الأجهزة لا تعرف الهدوء والصمت بين أنامل الزميل “أمين قوتالي”، الذي يحاول دائما جرّها نحو فكرته ونظرته للأشياء، بغية إفتكاك لحظة منسية في زمن إبتلعته عوالم السرعة والديجيتال.

لمسته الحصيفة كقارئ نهم وصحفي متمكن ومصور محترف، مكنته من ولوج عوالم فن جميل ليس معروفا لدى الكثير من الجزائريين، فعبّر عن أفكاره “بلغة البحر” أو بحصوات الشاطئ المبللة برائحة المتوسط، راسما بذلك لوحات “تشكيلية”، قريبة من يوميات الناس ليمرر رسائله التي يرغب فيها أن تمر!

إنطباع أولي لم يخب !؟

كنت جالسا خلفه على بعد مقعدين، في حافلة الديوان الوطني للسياحية قبل سنوات، فيما كان هو يتحدث بإسهاب وبتدفق رهيبين، و في الوقت الذي كان الصحفيون الجالسون بجانبه ينصتون إليه بإهتمام بالغ، منتظرين بنهم ما سيتلفظ به، فلم يكد يكمل جملته حتى دخل الجميع في نوبة ضحك هيستيرية ..! قلت في نفسي حينها وأنا ألتقط هذا المشهد وموجة الفضول تنتابني كمبتدئ في عالم “صاحبة الجلالة”، ” هذا الحكّاء البارع في نسج العبارات الساخرة والتنكيت، يبدو قارئا عظيما أيضا..  فعلا لم تخني توقعاتي وكنت على صواب فيما أصدرته من حكم مسبق عن شخص لديه القدرة على التحدث بلباقة وبكثير من السخرية التي تجعل المحيطين به يغرقون الضحك”؛.. في تلك الرحلات السياحية التي كان ينظمها الديوان الوطني للسياحة، لفائدة الصحفيين في 2012، تعرفت على أمين أو “محمد قوتالي” عن قرب، فهو  شاب جزائري حتى النخاع، يجيد القراءة والكتابة باللغتين، الفرنسية والعربية، تحدثنا مطولا حينها عن الأدب الجزائري، عن روايات الطاهر وطار، كاتب ياسين محمد ديب، مرزاق بقطاش وغيرهم، فهو من الصحفيين المثقفيين المشتغلين في صمت، تربطه علاقة وطيدة بالتاريخ، بالموسيقى الشعبية، بالجزائر العميقة، بكل ما تحمله من محمول حضاري وفكري، كما تكونت لديه علاقة جميلة أيضا بالبحر والشاطئ والأمواج، فما كان من “إبن عين طاية” سوى أن خلّد هذه العلاقة المتعددة الأوجه، بفن جميل جسده في أول معرض له بالعاصمة.

 فن “الحصوات الصغيرة”.. ولادة كيان  !

حينما كانت تعج الجدارن الفايسبوكية للجزائريين، بأخبار وإعلانات الموت المتدفقة بشكل شبه يومي على حياتهم منذ بداية عصر “الفيروس المتحور”، كان أمين يفرّ إلى ورشته بمنزله العائلي، ليرسم ملامح وتعابير لشخصيات مستعينا بفن الحصوات الصغيرة، الذي طرق حياته على حين غرة في فترة الحجرة الصحي، يقول في تصريح  لـ” الوطن برس” :” أنه مثل كل فئات المجتمع التي مستها تداعيات الوباء، فحينما تم غلق كل شيء خلال تلك الفترة، ذهب كل شخص باحثا عن هوايته أو لتطوير شيء كامن في داخله، كنت  أنا أرتاد البحر بشكل يومي، خاصة وأنه لا يبعد عني سوى 100 متر، هذا الفضاء الطبيعي كان جزءا من شخصيتي، وثقافتي، وحتى نظرتي للحياة ، مضيفا :”ورغم إعتيادي منذ نعومة أظافري على رؤية تلك الأحجار أو الحصوات الصغيرة الجميلة والمتعددة الألوان، إلا أنني لم أفكر يوما في أن إستغلالها في شيء، يشبه الفن، لكن مشاهدتي صدفة عبر منصة “اليوتيوب” لأحد روائع النحات الكبير السوري، “نزار علي بدر”، الذي وثّق الحرب في سوريا بطريقة مذهلة من خلال “فن الحصى”، جعلني أدخل في حالة إنبهار بالفكرة، فتدفق  داخلي شغف لم ينتهي للتعرف أكثر عن الابداع الجديد المكتشف والتعلم كذلك من الفنان السوري العالمي، فلم تكد تمر أيام حتى أصبحت ذلك الصحفي المتمرس، العالق في ورشته بشكل يشبه الإدمان، إلى درجة أنني كنت أشتغل عليه بشكل يومي، وبحكم عملي مساءً في الجريدة، فأول شيء أقوم به بعد تناول فطور الصباح هو الذهاب إلى “الورشة لبعث الحياة في تلك الحصوات الشاطئية الصغيرة بمختلف الأشكال والرموز.

مشتغل على الفن و ليس “فنانا”!

فمثلما منح اليوتيوب الفرصة لأمين لإكتشاف الفنان السوري “نزار علي بدر” ، أتاح له أيضا الفايسبوك الفرصة من أجل إستعراض لوحاته التي كان يصممها بشكل يومي تقريبا، ثم يقوم بتصويرها بالكاميرا أو بالهاتف و نشرها على حسابه الشخصي، وهنا يكون أمين قد جمع بين هواياته المفضلة التي يمارسها إلى جانب الكتابة الصحفية والقراءة، على غرار “التصوير الفوتوغرافي و”فن الحصى”، ولعل الصدى الإيجابي الذي إستقبل به أصدقائه الإفتراضيين هذه اللوحات، هو ما مكّنه من الإنبعاث نحو الإبداع بشغف حتى أصبح يمتلك  “معرضا إفتراضيا” قبل شهور من أول معرض مفتوح على الجمهور، في قسم العلوم الإنسانية بالمركز الثقافي الجامعي الواقع في شارع بوعلام العيساوي بالعاصمة من 19 الى 30 ديسمبر 2021.

بالرغم من إنخراطه كوافد جديد في هذا العالم الفني الجميل، وتشكيله للوحات معبرة، إلا أنه يرفض أن يطلق عليه إسم “فنان”، فهو يرى نفسه بعيدا عن المفهوم “السامي” للفن، ربما رغبة منه في الحفاظ على بصمته كصحفي ، وبالتالي يفضّل أن يوصف بأنه شخص مهتم أو مشتغل على “فن الحصىى”، وما يقوم به لا يعدو سوى محاولة لتمرير العديد من الرسائل والأفكار التي تختلج دواخله، من خلال تشكيل الكثير اللوحات، فالشيء الذي ساعده حسب قوله لإقتحام لهذا الفن هو إهتمامه بالشأن الثقافي في ممارساته الصحفية، هذه الميزة أكسبته القدرة على التعبير من خلال هذه الأشكال الحصوية، حيث يقول:” في الصحافة وبالضبط في القسم الثقافي، كنت أشتغل كثيرا على الروبرتاجات والبورتريهات، أما مقالات الرأي فلم أكن أكتب يوميا في هذا النوع الصحفي، خاصة مع تراجع تأثير الصحافة في عالم الميديا الجديدة، وشبكات التواصل الإجتماعي، لكن الشيء الذي أؤكد عليه، هو أنني حريص على عدم توصيل الفكرة بصفة مباشرة، بل أعمل دائما على إعطاء أفكاري أبعادا رمزية وهذا الفن ساعدني كثيرا في تمرير رسائلي”، ويضيف : “فعلا كان الفايسبوك الفضاء  أو المعرض الذي أكتشف فيه الناس أعمالي، خاصة وأنني أقوم في الأحيان بنشر العديد من اللوحات دفعة واحدة، مع عنونة كل لوحة، الأمر  الذي تفاعل معه المتابعون بشكل إيجابي، حتى غمرتني الدهشة وهذا الأمر طبعا سيحملني مسؤولية الجودة، كما سيشجعني على العمل أكثر “.

رسائل .. اللحظة الجزائرية من الداخل !

كما أشرت إليه أنفا، أن أمين يتميز بحس فكاهي ممتع، لقدرته على خلق التعابير الساخرة وصياغة النكت بطريقة فريدة، وهو ما أنعكس طبعا على أعماله التي لم يكشفها للجمهور في معرضه “أحجار الكريمة”، وأكفتي  فقط في ذات الفضاء باللوحات التي تتميز بطابع “الجدية” ، رغم أن أول ما إستقبله أصدقائه الإفتراضين على الفايسبوك هي لوحات ساخرة، تحمل دلالات وإشارات متميزة وكأنها توثق بعمق المجتمع الجزائري، بإعتبارها قريبة من يوميات الناس خاصة من خلال شخصية “الجوهر” التي تمثل المرأة بكل تقلباتها النفسية و التفاعلات الإجتماعية التي تعيشها في البيت والحي والمجتمع ، لكن لماذا تخلى أمين عن لوحاته الساخرة في معرضه أمام الجمهور العريض بالعاصمة يجيب فيقول:”إن السخرية حاضرة كثيرا على حياتي، وتمكنت من خلال هذا الفن من تمرير رسائل ناقدة في الجانب الإجتماعي والثقافي وحتى الديني”، ووعد أمين جمهوره بأن يستعرض اللوحات الساخرة التي بحوزته خلال المعارض المقبلة التي سيقوم بها عبر التراب الوطني.

وعن إنطباعه حول تفاعل الجمهور مع معرضه فيقول: ” لما دشنت هذا المعرض كثير من الناس تفاجؤوا بخصوصية هذا الفن، خاصة وأنهم إعتادوا على رؤية أعمال فنية كلاسيكية في مجال، مثل الرسم، النحت، الصورة الفتوغرافية، لكن لما إكتشفوا معرض الأحجار الكريمة أنبهروا و أُعجبوا كثيرا بالأفكار والمواضيع التي تم تناولها”.

وعن المواضيع التي تضمنتها هذه اللوحات الثلاثين، يوضح أمين بأنها مزيج متراوح بين التاريخ والأدب، الحب، الأدب، والحياة اليومية للناس موضحا: ” فأنا صحفي مهتم كثيرا بتاريخ الجزائر إلى غاية الثورة التحريرية وما بعدها، خاصة المقاومة الوطنية، التي أجد فيها إهتمام كبير وهو ما ستجدونه في المعرض من خلال 5 لوحات، حول الأمير عبد القادر، الشيخ بوعمامة، المؤسسون الستة للثورة، لوحة لمعركة ضد العدو الفرنسي، كما مثلت أيضا الأدب،  بصفتي قارئ مولوع بالكتاب الجزائريين سواء باللغة الفرنسية أو بالعربية، على غرار كاتب ياسين، مالك حداد، رشيد بوجدرة، رشيد ميموني، محمد مديب، الطاهر وطار، ياسمينة خضرا.. ولكن مؤخرا تأثرت كثيرا بأعمال المرحوم “مرزاق بقطاس”، الذي يملك رصيدا إبداعيا ضخما، أين يحوز البحر مكانة خاصة بين أعماله وهو ما أتقاسمه معه، لذلك تأثرت كثيرا بالعملية السردية التي أنتجها”، ليس هذا فقط بل أنا مهتم أيضا  بالموسيقى خاصة الشعبية منها، وجسدت بعض اللوحات لتخليد هذا الفن ومبدعيه على غرار الفنان الشيخ العنقة.

 أطلق أمين وصف “الأحجار الكريمة” على معرضه الذي يسدل الستار عنه اليوم ، رغم أن هذه الحصوات الشاطئية الصغيرة لا يلقى لها الناس أي إهتمام ، يوضح: ” لمّا أذهب إلى البحر وأرى هذه الأحجار ذات الألوان المتعددة والأشكال المختلفة سواء كانت داخل الماء أو خارجه، فتترك في في داخلي إنطباعا جميلا ، حتى أنني أصل في بعض الأحيان إلى الإعتقاد بأنها لؤلؤ من شدة الجمال الذي ينطبع في نفسي، وهنا طبعا أرغب في  تمرير رسالة إيكولوجية إلى الجمهور مفادها، بأن الطبيعة تمنح لنا كل الأدوات لكي نعبّر عن أفكارنا، ويجب أن نحافظ على هذه البيئة وهذه الثروة الكبيرة المحيطة بنا، فأعمالي مادة خام من الطبيعة، فلم أقم بتكسير أو تغير في  الأحجار أو في حجمها، وأخضعت الفكرة التي رغبت في تشكيلها تتأقلم مع الحجر وليس العكس “.

  • ربورتاج : أحمد لعلاوي 
الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق