ما بعد كورونا ..مفاصل واتجاهات!

 
عندما تنجلي عاصفة كورونا، هذه الجائحة التي أجبرت أكثر من ثلث من يدبون فوق الكرة الأرضية على التزام بيوتهم وإغلاقها على أنفسهم.

وألقت ظلالا من الهلع والفزع والخوف في قلوب سكان القارات كلها، واستنفرت أصفرها وأحمرها وأبيضها وأسودها وأذنت فيهم أن لا فرق بين غنيكم وفقيركم ومتطوركم ومتخلفكم !!

بعد انجلائها، لا محالة، ستنبري الأقلام لتحبير المقالات، وتسويد الصفحات، لمحاولة فهم ماذا حدث وما الذي سيحدث، متسائلين ومحللين ومستشرفين، للمآلات الكبرى والصغرى، التي أحدثها وسيحدثها زلزال كورونا في عالم السياسة والاقتصاد، والعلاقات الاتصالية كلها، للمجتمع العالمي دولا وشعوبا !
ومما لاشك فيه، أن ما بعد كورونا ليس كما قبلها، لجهة الدروس المستفادة و التغيرات المحدثة، شأنها في ذلك، شأن كل الأحداث التاريخية، التي عدت فواصل أساسية وانعطافات مفصلية، في مسار التاريخ البشري ،غابره و عابره، دابره وحاضره.

وأجبرت الدول والحكومات على إحداث مراجعات، وتغيير سياسات وابتداع استراتيجيات وتحويل تهديدات إلى فرص لتجاوز الاختلالات والانكسارات التي طبعتها تلكم الأحداث على صفحات القطاعات والميادين كلها.

هذه الجائحة التي زادها قوة التدفق الإعلامي العالمي، وكثافة التغطية الإخبارية زخما وقوة ، تُوحي بأن ثمة تغييرات حاسمة في انتظار عالم العولمة النيوليبرالي الذي نعيش فيه منذ أربعة عقود.

عالم ما بعد كورونا

فبلغة المستقبليات، كيف سيغدو عالم ما بعد كورونا؟ وماهي المفاصل الأساسية له التي سيعتريها التغيير العميق؟

أم أن كل ما في أمر كورونا أنها جائحة عابرة كغيرها، ستبقي ندوبا صغيرة ليست ذات بال، وبعدها ستستمر القافلة في المسير، في عالمنا كماهي دون تغييرات وتحويلات تعترض طريقها؟!.

وما يمكن قوله في شأن ذلك:

1- أن هذه الجائحة التي زادها قوة التدفق الإعلامي العالمي،وكثافة التغطية الإخبارية زخما وقوة ، تُوحي بأن ثمة تغييرات حاسمة في انتظار عالم العولمة النيوليبرالي الذي نعيش فيه منذ أربعة عقود.
فالتساؤلات حول جدوى الانفتاح الاقتصادي و الاتصالي و التواصلي العالمي، قد اشرأبت برأسها ، ملقية لوما كافيا على الأداء الهش في مكافحة الوباء، و وقف انتشاره على الدول النيوليبرالية المتطورة ، التي عرت كورونا هشاشة سياساتها للرعاية الصحية ، وبناها التحتية التي بدت عاجزة عن كبح انتشار الجائحة، وأبانت عن ضعف سياسات التنسيق بين دول تتقاسم منهجيات الاعتماد المتبادل والانفاق المتعاظم ،وأعلت م القيم الفردانية على حساب قيمة الجماعة، من وقيم السوق على حساب قيم الدولة ، الأمر الذي سيعيد مفهوم الدولة المتدخلة إلى حلبة النقاشات السياسية بوصفها الأقدر على فرض الضبط الاجتماعي، و الاقتصادي، والسياسي، والامني ،على افردها،  وهذا كله مقدمات إرتداد عن النيوليبرالية التي بشرت بنهاية الدولة و موتها.
 2- كذلك ؛ من التغييرات التي ستحدثها كورونا على المستوى الدولي، إعادة الاعتبار لقطاع الصحة العامة وسياستها، كقطاع استراتيجي يتجاوز في أهميته و أولوياته قطاعات أخرى عديدة ، وبالتالي زيادة تخصيص ميزانيات واعتمادات مالية هائلة لإعادة بنائه، توقيا للقادم من الجوائح و الأوبئة، بالاعتناء بقطاعات البحث العلمي الأساسية ذات الصلة بالصحة ودعمها .
3- سيتم إعادة النظر في مقولات عالم بلا حدود ، لجهة إعادة الضبط الحدودي بين الدول، و تقليص سياسات الانفتاح بلا ضوابط، والعودة إلى مفاهيم الحدود القومية، و الامن الحدودي، و التعاون الحدودي الثنائي والجماعي ، لما يمكن اعتباره انكفاءا حدوديا ذو صلة بمفهوم الأمن القومي الذي تكون الدولة مركز الثقل فيه .
4- ستدفع كورونا بالمنتظم الدولي إلى اعلاء قيم التعاون الدولي المشترك، والدفع بإصلاح المنظمات والهيئات الدولية، ما سيعمق من مفهوم المصير المشترك للإنسانية ، بعيدا عن التجاذبات المصلحية المتضاربة للدول.
5- على مستوى التنافس والصراع الدولي ، ستستمر حالات عدم اليقين بشأن مستقبل علاقات القوة بين أعضاء الجماعة الدولية، والثابت أن الصراع الدائرة رحاه اليوم في العالم بين الولايات المتحدة الأمريكية و مجموعة الدول المناوئة لها سيستمر ، وستستمر الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة لعبة إضعاف الخصوم لعقدين قادمين على الأقل، بالنظر إلى تعافي الاقتصاد القومي الأمريكي في فترة ترامب ،وتسجيله معدلات نمو حقيقية في الانتاج الحقيقي غير مسبوقة منذ عهد بيل كلينتون ، فضل ا عن نجاح سياساته في كبح الخصوم الاقتصاديين، لاسيما الاقتصاد الصيني الذي تأثر فعليا بحرب ترامب التجارية على العالم. أما مسألة الركود الاقتصادي العالمي فيبدو أنها مبعث اغتباط لقادة البيت الأبيض ويتمنون حدوثه بشكل عاجل لانه سيغرق اقتصاديات قوية استفادت كثيرا من فرص العولمة في أوتون الركود ويكبح جماحها في اعتلاء سدة الاقتصاد العالمي. وفقا المقولة عليا و على أعدائي ، ومقولة بيدي لا بيد عمرو..!!
6 جيو سياسيا ، لا جديد تحت شمس العلاقات الدولية ، فلعبة التنافس الدولي ستستمر قائمة على أصولها وتحالفاتها الحالية ، مع إمكانية بروز بعض الاصطفافات و التحالفات الصغرى ضمن الدوائر الكبرى تعزيزا لهذه، وتلك من التحالفات القائمة. والمتفائلون بأفول شمس النظام الدولي الحالي، عليهم انتظار جائحة حرب عالمية شاملة يكون السلاح النووي هو الفيروس الذي يكتب فصول نهايته.

7- بالنسبة للدول ، حققت الصين بعض المزايا النسبية من وراء جائحة كورونا عبر قوتها الناعمة ومسؤولياتها نحو المنتظم الدولي عبر تقديم مساعداتها للدول المصابة لفيروس كورونا كرقم فاعل وأساسي في تحول علاقات القوة العالمية لكن دول الاتحاد الأوروبي بأعتبار أدائها الهزيل والهش أما هذه الجائحة ، فأن سؤال مدى جدوى استمرار هياكل الاتحاد بعث حقا من قمقمه و الايام كفيلة بأية جواب يحسم ذلك.

بقلم / الاستاذ، الدكتور: لزهر وناسي

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة − 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق